الجمعة 19 ربيع الآخر 1442 هـ

الموافق 4 ديسمبر 2020 م

 

الحمد لله عالم الغيب والشهادة، أحل الحلال وحرم الحرام، نحمده سبحانه، قسم العباد بعدله إلى شقي اجتاز حدود ربه وانتهك الحرمات، وسعيدٍ جرى على النهج السديد واتقى الشبهات، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، غافر الذنب ومقيل العثرات، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله حث على طلب الرزق الحلال، وحذر من الكسب الحرام؛ نصحاً للأمة وشفقة عليهم ومما يضرهم، فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصِيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله اتقوا الله جميعاً رحمكم الله، وقابِلوا إحسانَ ربكم بدوام حمده وشكره، فهو سبحانه يعامِل عبادَه بإحسانه وفضله، فإذا ما استعانوا بإحسانه على عِصيانه أدّبهم بعدلِه، فمن جاءه من ربّه ما يحبّ فليشكُر الواهب، ومن أصابه ما يكره فليتّهم نفسه، ومن انقطعت عنهم متّصِلات الأرزاق، فليعودوا باللّوم على أنفسهم ولا يتَّهموا الرزاق، (وَلَوْ بَسَطَ ٱللَّهُ ٱلرّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِى ٱلأَرْضِ وَلَـٰكِن يُنَزّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ)

معاشر المسلمين: حبُّ المال طبيعةٌ في البشر، وجِبِلَّةٌ في الإنسان، قال الله  تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمّاً) وقال سبحانه: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ، ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) والكسبُ الطيبُ محمودٌ في شريعة الله؛ حيث أمرَ الله تعالى بالسعي بقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) وقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه: (يا عمرو! نِعم المالُ الصالحُ مع الرجلِ الصالحِ) وقال  صلى الله عليه وسلم: (مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاماً قَطُّ خَيْراً مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ) وقال  صلى الله عليه وسلم:(لأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُم أَحبُلَهُ، ثُمَّ يَأْتِيَ الجَبَلَ، فَيَأْتِي بحُزْمَةٍ مِن حَطَبٍ عَلى ظَهْرِهِ فَيَبيعَهَا، فَيَكُفَّ اللَّه بِهَا وَجْهَهُ؛ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَن يَسأَلَ النَّاسَ: أَعْطَوْهُ، أَوْ مَنَعُوهُ)… أيها الأخوة والأخوات في الله: لقد جعل الله الرغبةَ في المال ابتلاءً واختباراً؛ ذلك أنه  سبحانه  هو الربُّ العظيم، وقد قرَّر ألوهيَّته ووحدانيَّته في آيات القرآن العظيم، ثم ذكر أنه وحده المُشرِّعُ للحلال والحرام؛ فهو الخالقُ الرازقُ، والمالكُ المُتصرِّفُ، فأمرُ الحلال والحرام له سبحانه ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) وقال الله  عز وجل: (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) وقوله: حلالاً طيباً، والحلالُ الطيبُ أي: مُحلَّلٌ لكم ليس مُكتسباً بطريقٍ مُحرَّم؛ كالغصب، والسرقة، والرِّبا، والرِّشوة، والغشِّ، والمعاملات المُحرَّمة. وقوله: طيباً أي:ليس بخبيثٍ كالميتة، ولحم الخنزير، والخمر، والخبائث كلها.

أيها المسلمون: أصحابُ المكاسِب الطيبة والأموال الصالحة هم أسلمُ الناس ديناً، وأعفُّهم نفساً، وأهدؤُهم بالاً.. هم أشرحُ الناس صدراً، وأهنئهم عيشاً، أعراضُهم مُصانة، وأيديهم نزيهة، ورِزقُهم مُبارَك، وذِكرُهم في الناس جميل. وقد كان تحرِّي أكلِ الحلال من أعظم الخِصال التي تحلَّى بها النبي  صلى الله عليه وسلم وأصحابُه رضي الله عنهم وكان أهلُ الصلاح والتقى يتواصَون بالتعفُّف في المآكِل والمشارِب والمكاسِب: قال صلى الله عليه وسلم: (من أكلَ طيباً وعمِل في سُنَّة، وأمِنَ الناسُ بوائِقَه دخل الجنة) وقال: (أَرْبَعٌ إِذَا كُنَّ فِيكَ فَلا عَلَيْكَ مَا فَاتَكَ مِنَ الدُّنْيَا: حِفْظُ أَمَانَةٍ، وَصِدْقُ حَدِيثٍ، وَحُسْنُ خَلِيقَةٍ، وَعِفَّةٌ فِي طُعْمَةٍ). ولقد احتفَى العلماءُ بأكل الحلال تقريراً وتحقيقًاً، حتى أثبَتوه في عقائِدِهم. قال الفُضيل بن عياضٍ  رحمه الله: (إن لله عباداً يُحيِي بهم البلاد والعباد، وهم أصحابُ سُنَّة، من كان يعقِلُ ما يدخلُ جوفَه من حِلِّه كان في حِزبِ الله المُفلِحين). وإن الله طيبٌ لا يقبَلُ إلا طيباً، والطيبُون للطيِّبات، والطيِّباتُ للطيِّبين، (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وإذا طابَت النفسُ طابَ منها كل شيءٍ، قال النبي  صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص  رضي الله عنه: (يا سعدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ؛ تَكُنْ مُستَجابَ الدَّعوةِ. والَّذي نفْسُ محمَّدٍ بيدِهِ، إنَّ العبدَ لَيَقذِفُ اللُّقمةَ الحرامَ في جَوْفِهِ ما يُتَقبَّلُ مِنهُ عَمَلٌ أربعين يوماً، وأيُّما عبدٍ نَبَتَ لحمُهُ مِن سُحْتٍ، فالنَّارُ أَوْلَى بهِ).

أيها المسلمون: إن طلبَ الحلال وتحرِّيه ليس مُجرَّد خُلُقٍ فاضلٍ؛ بل هو أمرٌ واجبٌ، فلن تزولَ قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن مالِه من أين اكتسبَه وفيمَ أنفقَه؟

وإن حقًّاً على كل مسلمٍ أن يتحرَّى الطيبَ من الكسب، والنَّزيهَ من العمل؛ ليأكُلَ حلالاً، ويُنفِقَ في حلال. ومن هنا؛ كان للصالحين مواقِفُ في الورعِ والتحرِّي يطولُ بها الحديث: فهذا الصدِّيقُ أبو بكرٍ رضي الله عنه يجيئُه غلامُه بشيءٍ فيأكلُه، فيقول الغلامُ: أتدرِي ما هو؟ تكهَّنتُ في الجاهليَّة لإنسان، وما أُحسِنُ الكِهانة، لكني خدعتُه، فلقِيَني فأعطانِي بذلك، فهذا الذي أكلتَ. فأدخلَ أبو بكرٍ  رضي الله عنه  يدَه في فمِه، فقاءَ كلَّ شيءٍ في بطنِه. وفي روايةٍ أنه قال: (لو لم تخرُج إلا مع نفسِي لأخرجتُها، اللهم إني أعتذرُ إليك مما حمَلَت العروقُ وخالطَ الأمعاء).فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ) فَخَشِيتُ أَنْ يَنْبُتُ شَيْءٌ مِنْ جَسَدِي مِنْ هَذِهِ اللُّقْمَةِ) وهذا الفاروق عمر بن الخطّاب رضي الله عنه، شرب يوماً لبناً فأعجبه، فقال للذي سقاه: من أين لك هذا؟ قال: مررت بإبل الصدقة وهي على ماء فأخذت من ألبانها، فأدخل عمر يده، فاستقاء، وزجر الرّجل زجراً شديداً. لأن الصدقة لا تحل له. وهكذا كان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم جميعاً، وهكذا كانت نساء الصحابة والتابعين والصالحين من عباد الله المؤمنين كانت الواحدة منهنّ توصي زوجها إذا أراد أن يخرج لطلب الرزق، توصيه قائلة: يا هذا اتق الله في رزقنا، فإنّا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار… هكذا يتورَّعُ الصالحون؛ صيانةً لدينِهم، وتقوَى لربِّهم، وبُعداً عن الشُّبُهات، كانوا يحرصون أشدّ الحرص على تحرّي الحلال واجتناب الحرام، فرزقهم الله قلوباً خاشعة، وعيوناً دامعة، وأصلح أولادهم وذرياتهم، ونصرهم على أعدائهم، ثمّ خلف من بعدهم في الأزمنة المتأخّرة، خلف يعلمون الحرام ويملئون به بطونهم، وبطون أهليهم وأولادهم، ويُفتون لأنفسهم ويجدون لها الأعذار والمبررات والمعاذير!. فهل نعجب بعد كلّ هذا لقسوة القلوب وقحط العيون؟ هل نعجب لفساد الأبناء والذرية وتيهها وضياعها؟ إنّه الحرام الذي ملأ البطون والأجواف. ولا حول ولا قوة إلا بالله.. في الحديث الصحيح أنّ نبيّ الهدى صلّى الله عليه وسلّم قال: (ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يُبالِي المرءُ بما أخذَ المالَ، أمِنَ الحلال أم من الحرام) أليست هذه حال زماننا هذا الذي نعيشه إلا من رحم الله؟ رباً وقمار وسرقة واختلاس، تطفيف في الكيل والميزان.. غشّ في البيع، وكتم لعيوب السّلع.. سحر ودجل وشعوذة.. أكل لأموال الناس واليتامى بالباطل، وغدر وخيانة.. إضاعة للوظائف والأعمال وغياب لأتفه وأوهى الأسباب، وتلاعب بالعطل المرضية، وسرقة واضحة من ساعات العمل، ثمّ في النّهاية عندما يُبتلى الواحد منّا بمرض أو همّ أو مصيبة يقول: أنّى هذا؟ (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا، قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

أيها الأخوة والأخوات في الله: التنافُسُ على الدنيا، وإتباعُ الشهوات، والهلَعُ على الرِّزق، مع نسيان الحسابِ مالَ ببعضِ الخلقِ إلى التهافُتِ على حُطام الدنيا، وعدم المُبالاة بموارِد المكاسِب. عن حُذيفة بن اليمان رضي الله عنه  قال: قامَ رسولُ الله  صلى الله عليه وسلم  فقال: (هلُمُّوا إليَّ)، فأقبَلوا إليه فجلَسُوا. فقال: (هذا رسولُ ربِّ العالمين جبريلُ نفثَ في روعِي أنه لن تموتَ نفسٌ حتى تستكمِلَ رِزقَها وإن أبطَأَ عليها، فاتقوا الله وأجمِلوا في الطلب، ولا يحمِلنَّكم استِبطاءُ الرِّزق أن تأخذُوه بمعصية الله؛ فإن الله لا يُنالُ ما عندَه إلا بطاعتِه) (وأجمِلوا في الطلبِ) أي: في طلبِ الرِّزق والسعي لتحصيل الدنيا والمكاسِب.. أيها المؤمنون: قد يجتهِدُ مسلمٌ في عملٍ صالحٍ، لكنه يتهاوَنُ في أكل الحرام، فيخسرُ الدنيا والآخرة، فلا يُقبَلُ عملُه، ولا تُستجابُ دعوتُه، ولا يُبارَكُ له في كسبِه. قال رسولُ الله  صلى الله عليه وسلم: (إن الله طيبٌ لا يقبَلُ إلا طيباً، وإن الله أمرَ المُؤمنين بما أمرَ به المُرسَلين، فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ) ثم ذكرَ الرجُلَ يُطيلُ السفرَ أشعثَ أغبرَ، يمُدُّ يديه إلى السماء: يا رب، يا رب. ومطعمُه حرام، ومشرَبُه حرام، وغُذِي بالحرام، فأنَّى يُستجابُ لذلك؟!). ولذا كانت الصدقةُ بالمال الحرام مردودةً غير مقبولة؛ قال صلى الله عليه وسلم: (لا يقبَلُ الله صلاةً بغير طُهور، ولا صدقةً من غُلول) وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أدَّيتَ زكاةَ مالِك فقد قضيتَ ما عليك، ومن جمعَ مالاً حراماً ثم تصدَّقَ به لم يكُن فيه أجرٌ، وكان إصرُه عليه) وقال صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: (يا كعب بن عُجرة! إنه لا يدخُلُ الجنةَ لحمٌ نبَتَ من سُحتٍ) وفي رواية قال له: يا كعب! لا يربُو لحمٌ نبَتَ من سُحتٍ إلا كانت النارُ أولَى به) والسُّحتُ هو الحرام في كل صورِه؛ كأكل الرِّبا، وأخذ الرُّشا، وأكل مال اليتيم، وأنواع البيوع المُحرَّمة وغيرها، فليتذكَّر كلُّ إنسانٍ منا أن الله سائِلُه يوم القيامة عن مالِه من أين اكتسبَه وفيمَ أنفقَه؟ سُؤال تقريرٍ ومُحاسَبَة، يكونُ من بعدِها الجزاءُ العادِلُ (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) ومن عوَّد نفسَه الورعَ والمُحاسبَة، والعِفَّةَ والقناعةَ صارَ له ذلك خُلُقًاً وطبعاً، قال تعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا)

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، يا واسع الفضل والإحسان، يا أكرم الأكرمين.

نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ذي الجلال والإكرام،نحمده سبحانه هو الملك القدوس السلام، ونشكره على ما حبانا به من الفضل والإنعام، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الذي أوضح الأحكام، وبين الحلال والحرام، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أفضل مرسل وأكمل إمام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الأئمة الأعلام.

أما بعد فيا أيها المسلمون: إن مما تساهلَ الناسُ فيه وهو من كبائِر الذنوبِ: الغُلول، الذي أنتشر على نطاق واسع في أكثر بلاد المسلمين إلا من رحم الله، والغلول: هو: أن يأخُذ الإنسانُ من الأموالِ العامَّة ما ليس له، أو يُسخِّر أدواتِ وظيفتِه، أو نفوذَه لنفعِ نفسِه وقرابَتِه لا لخدمةِ الناس والمجتمع، وهذا من الظُّلم العظيم، الذي يجُرُّ المُجتمعَ إلى فسادٍ عريضٍ، وصاحبُه مُتوعَّدٌ بالعقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة، قال الله  عز وجل: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)

وقال صلى الله عليه وسلم: (من استعمَلناه على عملٍ فرزَقنَاه رِزقًاً، فما أخذَ بعد ذلك فهو غُلُول) وقال صلى الله عليه وسلم: (أدُّوا الخيطَ والمِخيَط، وأكبرَ من ذلك وأصغر، ولا تغُلُّوا؛ فإن الغُلُول نارٌ وعارٌ على أصحابِه في الدنيا والآخرة) وقال صلى الله عليه وسلم: من استعمَلناه منكم على عملٍ فكتمَنا مِخيَطًاً فما فوقَه كان غلُولاً يأتي به يوم القيامة .. الحديث)؛ عباد الله: إن الأمرَ لا يتعلَق بالقلَّة والكثرة، ولكنَّه مبدأٌ ودينٌ يدينُ الناسُ به لربِّهم، وخُلُقٌ يتخلَّقُونَه، وأمانةٌ يُؤدُّونها، ومن امتدَّت يدُه إلى القليل تجرَّأ على الكثير.

أيها المؤمنون: إذا انتشر الغُلُول بين الناس، ولم يجِد أحدُهم حرجاً من امتِداد يدِه إلى ما ليس له؛ فإن أخلاقًاً رديئةً تنتشر في المجتمع، وكلُّ خُلُقٍ سيِّئٍ منها يدعُو إلى ما هو أسوأ منه، في سلسلةٍ لا تنتهِي من فسادِ الضمائر والأخلاق، والأنانيَّة والجشَع، مما يُؤدِّي إلى الظُّلم والبغيِ، ويُنتِجُ الضغائِنَ والأحقاد، وينشر الخلافَ والشِّقاق، لاسيَّما عند اتِّساع الدنيا… عباد الله: إن الفساد الإداريَّ والماليَّ يُؤدِّي إلى فساد المُجتمع كلِّه، ويُنتِجُ أخلاقًاً سيئةً، ويُؤدِّي إلى التخلُّف والانحِطاط، والفقر والحاجَة، وضعف الديانَة وفساد الأخلاق.

ويُؤدِّي هذا الفسادُ العظيمُ إلى تعطيل مصالِح العباد وظُلمِهم، فمن كانت بيدِه مصالِحُ غلَّها وحرمَ منها أكفاءَ المسلمين، لتكون لمن لا يستحِقُّها في أكثر حاجات الناس ومصالِحِهم.

ولقد استَهانَ كثيرٌ من الناس بهذا البابِ الخطيرِ إلا من رحم الله، وهو فسادُ الذِّمَم، وشراءُ الضمائِر، والمُماطَلَةُ في الحقِّ، والتقاعُسُ عن أداء الواجِبِ، إلا برِشوةٍ أو هديَّةٍ يبذُلُها طالِبُ الحاجة. وهذا يُوقِفُ النَّماءَ، ويُفسِدُ المصالِح، ويُخرِبُ الديار والأوطان. وإذا فُقِدَت الأمانةُ بين الناس ضاعَت الحقوقُ، واضمحَلَّ العدلُ، وانتشرَ الظُّلمُ، ورُفِع الأمن، وسادَ الخوفُ؛ قال صلى الله عليه وسلم: (إذا ضُيِّعَت الأمانة فانتظِر الساعةَ) وقال ابن مسعود  رضي الله عنه: (أولُ ما تفقِدون من دينِكم الأمانة). فلا سبيلَ للنجاةِ من عذابِ الله تعالى إلا بمُراقبته في السرِّ والعلَن، والخوفِ منه قبل الخوفِ من البشر، ولا سبيلَ لنهضَة الأمة وتقدُّمها، وانتِشالِها من الجهلِ والتخلُّفِ إلا بإقامة العدل، ورفع الظُّلم، واستِعمال الأمين، وإقصاء الخائِن، ومُكافأة المُحسِن، ومُعاقبَة المُسيء، ومُحاسبَة المُقصِّر، وعدم مُحاباة أحدٍ في ذلك. وإنكم لمسئولون عن أموالِكم: من أين اكتسبتُموها؟ وأين أنفقتُموها؟ فأعِدُّوا لما تُسألون عنه جواباً، ولا تنظُروا إلى من تخوَّضُوا في المالِ الحرامِ كم جمَعُوا؟ فإنهم والله زائِلُون عن جمعِهم، وأموالُهم تُثقِلُ ظهورَهم يوم الجمع والحساب.

اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك،وبفضلك عمن سواك،اللهم إن كان رزقنا في السماء فأهبطه، وإن كان في الأرض فأظهره، وإن كان بعيداً فقربه، وإن

كان قريباً فيسره، وإن كان قليلاً فكثره وبارك اللهم لنا فيه، اللهم أجعل أوسع رزقك علينا عند كبر سننا، وانقطاع عمرنا،اللهم إنا نسألك رزقاً طيباً وعملاً متقبلا ،اللهم عليك توكلنا فارزقنا واكفنا،ورضنا بقضائك وقنعنا بعطائك واجعلنا من أوليائك،  اللهم ارزقنا رزقاً حلالاً بلا كد، واستجب دعائنا بلا رد، اللهم لاتجعل بيننا وبينك في رزقنا أحداً سواك، واجعلنا أغنى خلقك بك وأفقر عبادك إليك وهب لنا غنى لايطغينا  وصحة لاتلهينا.

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم اجعل كلمتك هي العليا إلى يوم الدين، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في وطننا، وفي خليجنا ووفق ولاة أمورنا، وفق ملكنا حمد بن عيسى وولي عهده سلمان بن حمد اللهم فقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وهيئ لهم البطانة الصالحة الناصحة يارب العالمين.

اللهم أحفظ بلادنا البحرين وبلاد المسلمين وبلاد العالم أجمعين من الأوبئة وسيئ الأسقام والأمراض، ومّن بالشفاء والعافية على المصابين بهذا الوباء، وارحم موتاهم، وعجل بانتهائه في القريب العاجل برحمتك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين.. اللهم كن لإخواننا المستضعفين المظلومين في كل مكان ناصراً ومؤيداً، اللهم أصلح أحوالهم، وفرج همهم ونفس كربهم، واحقن دمائهم، وحقق آمالهم، وألف بين قلوبهم، ولا تجعل لعدو ولا طاغية عليهم سبيلا…

اللهم أحفظ المسجد الأقصى مسرى نبيك  وحصنه بتحصينك، وأكلأه برعايتك، واجعله في حرزك وأمانك وضمانك يا ذا الجلال والإكرام.. اللهم فرج الهم عن المهمومين، ونفس الكرب عن المكروبين، واقض الدين عن المدينين واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

الْلَّهُمَّ نَوِّرْ عَلَىَ أَهْلِ الْقُبُوْرِ مَنْ الْمُسْلِمِيْنَ قُبُوْرِهِمْ، وَاغْفِرْ لِلأحْيَاءِ وَيَسِّرْ لَهُمْ أُمُوْرَهُمْ،

الْلَّهُمَّ صَلِّ وَسَلَّمَ وَزِدْ وَبَارِكَ عَلَىَ سَيِّدِنَا وَنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىَ آَلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِيْنَ. (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ  وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)

      خطبة جامع الفاتح الإسلامي – عدنان بن عبد الله القطان – مملكة البحرين